تطالبني دوماً بأن أعمل على توسعة النافذة، بحجة أنها لا تستطيع أن ترى البحر بلونه الأزرق، ولا تستطيع احتضان امواج البحر والاحساس بقوته، ولا تستطيع أن تسير على رماله وتعبث بأصابعها بشعرها وتنثره على شواطئه، وعبثاً أحاول اقناعها بأن النافذة واسعة وكبيرة، ولكنها تخبرني بأنها لا ترى منها ما تريد والسبب أنها ضيقة وتكتم الأنفاس، أجيبها وأنا أخرج من البيت "لا عليك، سأرى ما يمكنني فعله عندما أعود".
أتوجه بالسيارة للعمل وأفكر، ما العمل؟ وأحاول أن أتخيل كيف يمكن أن أعمل على توسعة النافذة وهي كبيرة جداً بشكلها الحالي؟! وأنتبه مفزعاً على أبواق السيارات تصيح في وجهي "انتبه لقيادتك"، ويتجاوزني أحد السائقين ولا أستطيع أن أميز ما يقول من هول غضبه، وتهيأ لي بأنه يشتمني بكل لغات الأرض، وأشير له مبتسماً بالإعتذار، ويهز رأسه ويعض شفتيه ويرفع يده ملوحاً وينطلق مسرعاً، وأكمل طريقي إلى العمل.
عدت في المساء لأجد العشاء كالعادة رائعاً، وجلسنا جميعاً على سفرة الطعام والجميع يتبادل الأحاديث والنكات حول أحداث اليوم، إلا أنا بقيت صامتاً أتناول طعامي في صمت خوفاً من أن أقع في مصيدة النافذة مرة أخرى، ومتحاشياً حتى للنظر لها، وكلما أسترق النظر نحوها بطرف عيني أجدها تنظر لي بابتسام وهدوء، وعند انتهائي من الطعام بقيت جالساً مكاني، وبدأ الأولاد ينسحبون لغرفهم واحداً تلو الآخر، ولم يبق إلا أنا وهي.
بدأت أفكر وأعمل بعقلي مستجمعاً كل خبراتي بالحياة حول السبيل اللازم لاقناعها بالعدول عن فكرة توسعة النافذة، وباغتتني بالحديث وسألتني مبتسمة، كيف كان يومك؟ فعلمت أنها ستبدأ مرة أخرى بنفس موضوع النافذة، ولكني أجبتها بأن الامور كانت ممتازة بالعمل، وحتى خضت بتفاصيل كانت تعتبرها مملة، راجياً أن تهرب من الحديث، ولكنها استمرت جالسة تستمع لي بكل هدوء وسكينة حتى انتهيت.
وأضفت "وأنت كيف كان يومك؟"، وشعرت بالحنق على نفسي والغضب يملء قلبي على حماقتي بتوجيه مثل هذه السؤال لانه ببساطة يعني أنني وقعت بالفخ الذي كنت أتحاشى الوقوع فيه منذ عودتي من العمل، ولكنها بكل هدوء أجابتني بالتفصيل الممل عن يومها منذ لحظة تركي لها بالصباح، وأردفت قائلةً "اشتقت لك، اشتقت لإحتضان أمواج عاطفتك، والسير على رمال شاطئ حياتك أراقب طيور النورس وهي تطير حولك، وأن ألتقط أصدافك لأضعها على أذني لأسمع أجمل وأعذب ألحاني"، فقلت لها "ترينني بحر حياتك" فقالت بسرعة بديهة "لكنك تضيق نافذتي للوصول للبحر، فقلبك هو نافذتي، وسع قلبك تتوسع نافذتي"، وهكذا كان.
في صباح اليوم التالي، وأنا أغادر للعمل سألتها "هل تحتاجين شيئاً؟" قالت لا تنس أن تبقي النافذة واسعة.